فصل: باب دخول الخلاءَ والاستِطَابة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب دخول الخلاءَ والاستِطَابة:

هذا الباب يذكر فيه آداب دخول الخلاء، والجلوس فيه، والخروج منه، كما يذكر فيه كيفية الاستطابة من الأنجاس في المخرجين بحجر وما يقوم مقامه والتحرز منها، وهذا من أبواب كتاب الطهارة المذكور سابقا.
الحديث الأول:
عن أنس بن مالك رَضي الله عَنْهُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ قَاَلَ: «اللهُمَّ إني أعُوذُ بِك من الْخُبثِ والْخَبائثِ».
الخبث-بضم الخاء والباء- جمع (خبيث) والخبائث جمع خبيثة.
استعاذ من ذُكران الشياطين وإناثهم.
غريب الحديث:
1- «إذا دخل الخلاء»: يعنى إذا أراد الدخول كقوله تعالى: {فَإذَا قرأتَ القُرْآنَ فَاستَعِذ بَالله منَ الشيْطَان الرجِيم}. يعنى: فإذا أردت قراءة القرآن.
وكما صرح البخاري في الأدب المفرد بهذا حيث روى عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: وذكر حديث الباب.
2- الخلاء: بالمد، المكان الخالي. وهنا، المكان المقصود والمعدّ لقضاء الحاجة فإن قصد فضاء كصحراء لقضاء حاجته فلا حاجة إلى تأويل الدخول بإرادة الدخول.
3- «الخبث والخبائث»: الخبث، ضبط بضم الخاء والباء كما ذكر المصنف ومعناه ذكور الشياطين، وضبطه جماعة بإسكان الباء ومعناه على هذا يكون الشر، وهو معنى جامع حيث قد استعاذ من الشر وأهله، وهم الخبائث، فينبغي للقائل مراعاة هذا المعنى العام.
المعنى الإجمالي:
أنس بن مالك المتشرف بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا في هذا الحديث أدب النبي صلى الله عليه وسلم حينِ قضاء حاجته، وهو أنه صلى الله عليه وسلم-من كثرة التجائه إلى ربه- لا يدع ذكره والاستعانة به على أية حال.
فهو صلى الله عليه وسلم إذا أراد دخول المكان الذي سيقضي فيه حاجته، استعاذ بالله، والتجأ إليه أن يقيه من الشر الذي منه النجاسة، وأن يعصمه من الخبائث، وهم الشياطين الذين يحاولون في كل حال أن يفسدوا على المسلم أمر دينه وعبادته.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو المحفوف بالعصمة- يخاف من الشر وأهله، فجدير بنا أن يكون خوفنا أشد وأن نأخذ بالاحتياط لديننا من عدونا.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب هذا الدعاء عند إرادة دخول الخلاء، ليأمن من الشياطين الذين يحاولون إفساد صلاته.
2- إن من أذى الشياطين أنهم يسببِون التنجس لتفسد صلاة العبد فيستعيذ منهم، ليتقي شرهم.
3- وجوب اجتناب النجاسات، وعمل الأسباب المنجية منها. فقد صح أن عدم التحرز من البول من أسباب عذاب القبر.
الحديث الثاني:
عَنْ أبي أيّوبَ الأنصاري رَضِي الله عَنْهُ قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا أردتمُ الغَائِطَ فَلا تَستقْبِلوا القِبلَةَ بِغَاِئطٍ وَلا بَوْل وَلا تسْتدْبِرُوهَا وَلكنْ شَرقوا أوْ غَربُوا». قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل.
غريب الحديث:
1- «الغائط»: المطمئن من الأرض، وكانوا ينتابونه لقضاء الحاجة، فكنوا به عن الحدث نفسه.
2- والمراحيض: جمع مرحاض وهو المغتسل، وقد كنوا به أيضا عن موضع قضاء الحاجة.
3- ولكن شرقوا أو غربوا: اتجهوا نحو المشرق أو المغرب.
وهذا بالنسبة لأهل المدينة ومن في سَمْتهم، ممن لا يستقبلون القبلة ولا يستدبرونها إذا شرقوا أو غربوا.
المعنى الإجمالي:
يرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء من آداب قضاء الحاجة بأن لا يستقبلوا القبلة، وهى الكعبة المشرفة، ولا يستدبروها حال قضاء الحاجة لأنها قبلة الصلاة، وموضع التكريم والتقديس، وعليهم أن ينحرفوا عنها قِبَلَ المشرق أو المغرب إذا كان التشريق أو التغريب ليس موجَّها إليها، كقبلة أهل المدينة.
ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أسرع الناس قبولا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو الحق، ذكر أبو أيوب: أنهم لما قدموا الشام إثر الفتح وجدوا فيها المراحيض المعدة لقضاء الحاجة، قد بنيت متجهة إلى الكعبة، فكانوا ينحرفون عن القبلة، ولكن قد يقع منهم السهو فيستقبلون الكعبة، فإذا فطنوا، انحرفوا عنها، وسألوا الله الغفران عما بدر منهم سهواً.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، حال قضاء الحاجة.
2- الأمر بالانحراف عن القبلة في تلك الحال.
3- إن أوامر الشرع ونواهيه تكون عامة لجميع الأمة، وهذا هو الأصل. وقد تكون خاصة لبعض الأمة، ومنها هذا الأمر فإن قوله: «ولكن شرقوا أو غربوا» هو أمر بالنسبة لأهل المدينة ومن هو في جهتهم، ممن إذا شرقوا أو غربوا لا يستقبلون القبلة.
4- الحكمة في ذلك تعظيم الكعبة المشرفة واحترامها. فقد جاء في حديث مرفوع: «إذا أتى أحدكم البراز فليكرم قبلة اللَه عز وجل ولا يستقبل القبلة».
5- المراد بالاستغفار هنا: الاستغفار القلبي لا اللساني، لأن ذكر الله باللسان في حال كشف العورة وقضاء الحاجة ممنوع.
الحديث الثالث:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: رَقيِتُ يَوْماً عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقْضى حَاجَتَهُ مُسْتَقْبلَ الشَّام مُسْتَدْبرَ الكَعْبَةِ.
المعنى الإجمالي:
ذكر ابن عمر رضي الله عنه: أنه جاء يوماً إلى بيت أخته حفصة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم، يقضى حاجته وهو متَجه نحو الشام، ومستدبر القبلة.
اختلاف العلماء والتوفيق بين الحديثين:
اختلف العلماء في حكمٍ استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة.
فذهب إلى التحريم مطلقا، راوي الحديث أبو أيوب، ومجاهد، والنخعي، والثوري. ونصر هذا القول ابن حزم وأبطل سواه من الأقوال في كتابه المحلى، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وقواه: ورد غيره من الأقوال في كتابيه. زاد المعاد وتهذيب السنن واحتجوا بالأحاديث الصحيحة الواردة في النهى المطلق عن ذلك، ومنها حديث أبى أيوب هذا الذي معنا.
وذهب إلى جوازه مطلقاً، عروة بن الزبير، وربيعة، وداود الظاهري، محتجين بأحاديث، منها حديث ابن عمر الذي معنا.
وذهب الأئمة مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق وهو مروي عن عبد الله بن عمر، والشعبي: إلى التفصيل في ذلك.
فيحرمونه في الفضاء، ويبيحونه في البناء ونحوه.
فهذا هو المذهب الحق الذي تجتمع فيه الأدلة الشرعية الصحيحة الواضحة فإن التحريم مطلقاً، يبطل العمل بجانب من الأحاديث، والإباحة مطلقا كذلك. والتفصيل يجمع بين الأدلة، ويعملها كلها، وهذا هو الحق. فإنه مهما أمكن الجمع بين النصوص، وجب المصير إليه قبل كل شيء وهناك قول رابع لا يقل عن هذا قوة وهو القول بالكراهة لا التحريم قال الصنعاني: لابد من التوفيق بين الأحاديث بحمل النهى على الكراهة لا التحريم، وهذا وإن كان خلافا لأصل النهي. إلا أن قرينة إرادته فعله صلى الله عليه وسلم بخلافه للتشريع وبيان الجواز. وحمل أحاديث الباب على هذا هو الأقرب عندي. وقد ذهب إليه جماعة وبهذا يزول تعارض أحاديث الباب.
قلت: وعلى كل ينبغي الانحراف عن القبلة في البناء أيضا، اتقاء للأحاديث الناهية في ذلك، ولما فيه من الخلاف القويِّ الذي نصره هؤلاء المحققون.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز استدبار الكعبة عند قضاء الحاجة، ويفيد بأنه في البنيان.
2- جواز استقبال بيت المقدس عند قضاء الحاجة خلافا لمن كرهه.
الحديث الرابع:
عنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ، أنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسول الله يَدْخُلُ الخلاء فَأحْمِلُ أنَا وَغُلام نَحوِى إدَاوَةً مِنْ ماء وَعَنَزَةَ فَيَسْتَنْجِي بِاْلمَاء».
العنزة: الحربة الصغيرة.
غريب الحديث:
1- «وغلام نحوي»: الغلام، هو المميز حتى يبلغ و«نحوي» يعنى هو مقارب لي في السن.
2- «إداوة من ماء»: بكسر الهمزة، هي الإِناء الصغير من الجلد يجعل للماء.
3- العَنَزة: عصا أقصر من الرمح لها سنان.
المعنى الإجمالي:
يذكر خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما يدخل موضع قضاء الحاجة كان يجيء هو وغلام معه بطهوره،. الذي يقطع به الأذى، وهو ماء في جلد صغير، وكذلك يأتيان بما يستتر به عن نظر الناس. وهو عصا قصيرة في طرفها حديدة يغرزها في الأرض ويجعل عليها شيئا يقيه من نظر المارين.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز الاقتصار على الماء في الاستنجاء، وهو أفضل من الاقتصار على الحجارة، لأن الماء أنقى، والأفضل الجمع بين الحجارة والماء، فيقدم الحجارة، ثم يتبعها الماء، ليحصل الإنقاء الكامل. قال النووي: فالذي عليه جماعة السلف والخلف، وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجارة فيستعمل الحجر أولا لتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده، ثم يستعمل الماء. فإن أراد الاقتصار على أحدهما جاز الاقتصار على أيهما شاء، سواء وجد الآخر أو لم يجده، فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل من الحجر.
2- استعداد المسلم بطهوره عند قضاء الحاجة، لئلا يُحْوِجُه إلى القيام فيتلوث.
3- تَحَفظُهُ عن أن ينظر إليه أحد، لأن النظر إلى العورة محرم. فكان يركز العنزة في الأرض وينصب عليها الثوب الساتر.
4- جواز استخدام الصغار، وإن كانوا أحراراً.
الحديث الخامس:
عن أبي قَتَادة الْحَارِثِ بْنِ ربعي الأنصاري رَضِيَ اللَه عَنْهُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَاَلَ: «لا يُمْسِكن أحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهو يَبُولُ، وَلاَ يَتَمَسَّحْ مِنَ الخَلاَءِ بِيَمِيِنهِ، ولا يَتَنَفَس في الإنَاء».
المعنى الإجمالي:
يشتمل هذا الحديث الشريف على ثلاث جمل، من النصائح الغالية والفوائد الثمينة، التي تهذب الإنسان، وتجنبه الأقذار والأضرار والأمراض.
فالأولى والثانية:- أن لا يمس ذكره حال بوله، ولا يزيل النجاسة من القبل أو الدبر بيمينه، لأن اليد اليمنى أعدت للأشياء الطيبة، ومباشر الأشياء المرغوب فيها كالأكل والشرب.
فإذا باشرت النجاسات وتلوثت، ثم باشرت الطعام والشراب، والمصافحة وغير ذلك، كرهته. وربما حملت معها شيئا من الأمراض الخفية.
والثالثة:- النَّهى عن التنفس في الإناء الذي يشرب منه لما في ذلك من الأضرار الكثيرة، التي منها تكريهه للشارب بعده، كما أنه قد يخرج من أنفه بعض الأمراض التي تلوث الماء فتنقل معه العدوى، إذا كان الشارب المتنفس مريضاً.
وقد يحصل من التنفس حال الشرب ضرر على الشارب، حينما يدخل النفس الماء ويخرج منه.
والشارع لا يأمر إلا، بما فيه الخير والصلاح، ولا ينهى إلا عما فيه الضرر والفساد.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل النهى للتحريم، أو للكراهة؟
فذهب الظاهرية إلى التحريم، أخذا بظاهر الحديث.
وذهب الجمهور إلى الكراهة، على أنها نواه تأديبية.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهى عن مس الذكر باليمنى حال البول.
2- النهى عن الاستنجاء باليمين.
3- النهى عن التنفس في الإناء.
4- اجتناب الأشياء القذرة، فإذا اضطر إلى مباشرتها، فليكن باليسار.
5- بيان شرف اليمين وفضلها على اليسار.
6- الاعتناء بالنظافة عامة، لاسيما المأكولات والمشروبات التي يحصل من تلويثها ضرر في الصحة.
7- سُمُوُّ الشرع، حيث أمر بكل نافع، وحذر من كل ضار.
الحديث السادس:
عن عَبد الله بن عباس رضي الله تَعَاَلَى عَنْهُما قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بقبرين فَقَاَل: «إِنَهُمَا ليُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذً بانِ في كَبِير. أمًا أحَدُهُما فَكَاَن لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَول، وَأمَّا الآخر فكَاَن يمْشىِ بَالنميمَة».
فَأَخَذَ جَريدةً رَطْبَةً فَشَقَهَا نِصْفَيْنِ، فَغرزَ في كل قَبْر واحدَة.
فقالوا: يَا رَسُول الله، لم فَعَلْتَ هذَا؟ قَال: «لعَلهُ يُخَفَفُ عَنْهمَا مَا لم يَيْبَسَا».
غريب الحديث:
1- «إنهما ليعذبان»: المراد، يعذب من فيهما. من إطلاق اسم المحل على الحال فيه.
2- «لا يستتر من البول»: بتائين، أي لا يجعل سترة تقيه من بوله وروي: «لا يستبرئ».
3- «يمشى بالنميمة»: ينقل كلام الغير بقصد الإِضرار.
4- «فأخذ جريدة»: عسيب النخل الذي ليس فيه سعف.
5- فغرز: بالزاي، ورواه مسلم بالسين. أي: غرس.
قال أبو مسعود: وموضع الغرس كان بإزاء الرأس، ثبت بإسناد صحيح.
المعنى الإجمالي:
مر النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه بعض أصحابه بقبرين، فكشف الله سبحانه وتعالى له عنهما، فرأى من فيهما يعذبان.
فأخبر أصحابه بذلك، تحذيراً لأمته، وتخويفاً، فإن صاحبي هذين القبرين، يعذب كل منهما بذنب يسير تركه والابتعاد عنه، لمن وفقه الله لذلك.
فأحَدُ المعذَّبَيْن، لا يحترز من بوله عند قضاء الحاجة، ولا يتحفّظ منه، فتصيبه النَجاسة فتلوث بدنه وثيابه.
والآخر شيطان يسعى بين الناس بالنميمة التي تسبب العداوة والبغضاء بين الناس، ولاسيما الأقارب والأصدقاء.
يأتي إلى هذا فينقل إليه كلام ذاك ويأتي إلى ذاك فينقل إليه كلام هذا، فيولد بينهما القطيعة والخصام.
والإسلام إنما-جاء بالمحبة والألفة بين- الناس وقطع المنازعات والمخاصمات.
ولكن الكريم الرحيم أدركته عليهما الشفقة والرأفة، فأخذ جريدة نخل رطبة، فشقَّها نصفين، وغرز على كل قبر واحدة.
فسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا العمل الغريب عليهم فقال: لعل الله يخفف عنهما ما هما فيه في العذاب، ما لم تيبس هاتان الجريدتان.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في وضع الجريدة على القبر. فذهب بعضهم إلى استحباب وضع الجريدة على القبر، لأنهم جعلوا هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم تشريعاً عاماً.
والعلة عند هؤلاء مفهومة،:هي أن الجريدة تسبح عند صاحب القبر ما دامت رطبة.
فلعله يناله من هذا التسبيح ما يُنَورُ عليه قبره.
وذهب بعضهم إلى عدم مشروعية ذلك، لأنه شرع عبادة، وهو يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يثبته.
أما هذه فقضية عين، حكمتها مجهولة، ولذا لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع غير صاحبي هذين القبرين.
وكذاك لم يفعله من أصحابه أحد، إلا ما روى عن بُريدة بن الحُصيب، من أنه أوصى أن يجعل على قبره جريدتان.
أما التسبيح، فلا يختص بالرطب دون اليابس، والله تعالى يقول: {وإِنْ مِنْ شيء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ}.
ثم قالوا: لو فرضنا أن الحكمة معقولة، وهى تسبيح الجريد الرطب، فنقول: تختص بمثل هذه الحال التي حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم عند هذين القبرين، وهى الكشف له من عذابهما قال القاضي عياض: علل غرزهما على القبر بأمر مغيَب وهو قوله، ليعذبان فلا يتم القياس لأنا لا نعلم حصول العلة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- إثبات عذاب القبر كما اشتهرت به الأخبار وهو مذهب أكثر الأمة.
2- عدم الاستبراء من النجاسات سبب في هذا العذاب فالواجب الاستبراء منها: فالحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية. ويؤكد ذلك ما رواه الحاكم وابن خزيمة وهو: «أكثر عذاب القبر من البول» قال ابن حجر: وهو صحيح الإسناد.
3- تحريم النميمة بين الناس وأنها من أسباب عذاب القبر.
4- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وحرصه على إبعاد الشر عنهما.
5- الستر على الذنوب والعيوب. فإنه لم يصرح باسمي صاحبي القبرين، ولعله مقصود.
6- قوله: «ما يعذبان في كبير» أي بسبب ذنب كبير تركه كليهما، فإن ترك النميمة والتحرز من البول ليسا من الأمور الصعبة الشاقة. وقد كبر عذابهما لما يرّتب على فعلتيهما من المفاسد.
فائدة: اختلف العلماء في انتفاع الميت بعمل الحي حينما يجعل الحي ثواب قربته البدنية أو المالية إلى الميت، فقال الإمام أحمد: الميت يصل إليه كل خير للنصوص الواردة فيه. أما ابن تيمية فقد نقل عنه في ذلك قولان:
أحدهما: أنه ينتفع بذلك باتفاق الأئمة.
الثاني: أنه لم يكن من عادة السلف إذا فعلوا إحدى القربات تطوعا أن يهدوا ذلك لموتى المسلمين، واتباع نهج السلف أولى وقال الصنعاني: الميت يصح أن يوهب له أي قربة.. أما لحوق سائر القرب ففيها خلاف. والحق لحوقها. وذكر ابن تيمية أن الأخبار قد استفاضت بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا وسروره بالسار منها وحزنه للقبيح.

.باب السّوَاك:

السواك: بكسر السين، اسم للعود الذي يُتَسَوًكُ به، وللفعل الذي هو دَلك الأسنان بالعود أو نحوه، لتذهب الصفرة والأوساخ، وليطهر الفم ويحصل الثواب.
مناسبة ذكره هنا، أنه من سنن الوضوء ومن الطهارة المرغب فيها.
فهو أحد أبواب (كتاب الطهارة) المتقدم.
وفيه من الفوائد ما يفوت الحصر من النظافة، والصحة، وقطع الرائحة الكريهة، وطيب الفم، وتحصيل الثواب، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث الأول:
عن أبِي هريرة رَضِي الله عَنْهُ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْلاَ أنْ أشُقَّ عَلَى أمتي لأمَرْتُهُمْ بِالسَّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضوءٍ عِنْدَ كُل صَلاةٍ» متفق عليه.
المعنى الإجمالي:
من كمال نصح النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته الخير لأمته، ورغبته أن يلجوا كل باب يعود عليهم بالنفع لينالوا كمال السعادة، أن حثهم على التسوك.
فهو صلى الله عليه وسلم لما علم من كثرة فوائد السواك، وأثر منفعته عاجلا وآجلا، كاد يلزم أمته به عند كل وضوء أو صلاة.
ولكن-لكمال شفقته ورحمته- خاف أن يفرضه الله عليهم، فلا يقوموا به، فيأثموا، فامتنع من فرضه عليهم خوفاً وإشفاقاً. ومع هذا رغبهم فيه وحضَّهم عليه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب السواك وفضله، الذي بلغ به درجة الواجبات في الثواب.
2- تأكد مشروعية السواك عند الوضوء والصلاة قال ابن دقيق العيد: السر أنا مأمورون وكل حالة من أحوال التقرب إلى الله عز وجل إنما تكون في حالة كمال النظافة لإظهار شرف العبادة. وقيل: إن ذلك الأمر يتعلق بالملك فإنه يتأذى بالرائحة الكريهة. قال الصنعاني: ولا يبعد أن السر مجموع الأمرين المذكورين لما أخرجه مسلم من حديث جابر: «من أكل الثوم أو البصل أو الكراث، فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم».
3- فضل الوضوء والصلاة، المستعمل معهما السواك.
4- إنه لم يمنع من، فرض السواك إلا مخافة المشقة في القيام به.
5- كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته،وخوفه عليهم.
6- إن الشرع يسر لا عسر فيه، ولا مشقة.
7- أن درء المفاسد، مقدم على جلب المصالح.
وهذه قاعدة عظيمة نافعة جدا. فإن الشارع الحكيم، ترك فرض السواك، على الأمة مع ما فيه من المصالح العظيمة، خشية أن يفرضه الله عليهم فلا يقوموا به فيحصل عليهم فساد كبير، بتركِ الواجبات الشرعية.
الحديث الثاني:
عن حُذَيْفَةَ بْن الْيَمانِ قَالَ: كَان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قَامَ من الليل يَشُوصُ فاه بِالسوَاكِ.
قوله: «يشوص» بفتح الياء وضم الشين المعجمة المهملة، والشوص ذلك الأسنان بمسواك عرضا.
المعنى الإجمالي:
من محبة النبي صلى الله عليه وسلم للنظافة وكراهته للرائحة الكريهة، كان إذا قام من نوم الليل الطويل الذي هو مظنة تغير رائحة الفم، دلك أسنانه صلى الله عليه وسلم بالسواك، ليقطع الرائحة، ولينشط بعد مغالبة النوم على القيام، لأن من خصائص السواك أيضا التنبيه والتنشيط.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تأكد مشروعية السواك بعد نوم الليل. وعلته أن النوم مقتض لتغير رائحة الفم، والسواك هو آلة تنظيفية، ولهذا فإنه يسن عند كل تغير.
2- تأكد مشروعية السواك عند كل تغير كريه للفم، أخذا من المعنى السابق.
3- مشروعية النظافة على وجه العموم، وأنها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الآداب السامية.
الحديث الثالث:
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ أبي بَكْر الصديق رَضيَ الله عَنْهُمَا عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَأنا مُسْنِدَتهُ إِلى صَدْري-وَمَعَ عَبْدِ الرحْمنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بهِ- فَأبَدهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَصَرَهُ، فَأخَذْتُ السوَاكَ فَقَضِمْتُهُ وَطَيبتهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فاستنّ به، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اسْتَنَّ اسْتِنَاناً أحْسَنَ مِنْهُ. فَمَا عَداَ أنْ فَرَغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَهُ أوْ إِصبَعَهُ- ثم قال: «في الرَّفيقِ الأعلى» ثَلاثاً، ثُم قضى عَليهِ.
وكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتي وذاقِنَتي.
وفى لفظ: فَرَأيتهُ يَنُظُرُ إِلَيهِ، وَعَرَفْتُ أنَّهُ يُحِب السوَاَكَ فَقُلْتُ: آخُذُه لَك؟ فَأشَارَ بِرأسِهِ: أن نَعَمْ.
هذا لفظ البخاري، ولـ مسلم نحوه.
غريب الحديث:
1- «يستن به» يُمِرُّ السواك على أسنانه، كأنه يحددها.
2- «فأبده» بتخفيف الباء الموحدة، وتشديد الدال، مدَّ إليه بصره وأطاله.
3 «بين حاقنتي وذاقنتي» الحاقنة ما بين الترقوتين وحبل العاتق، الذاقنة طرف الحلقوم الأعلى.
4- «فقَضِمته» بفتح القاف وكسر الضاد المعجمة كذا ضبطه ابن الأثير وغيره، أي مضغته بأسنانها، ليلين.
والقضم بأطراف الأسنان والخصم بالفم كله.
المعنى الإجمالي:
تذكر عائشة رضي الله عنها قصةً تبين لنا مدى محبة النبي صلى الله عليه وسلم للسواك وتعلقه به.
وذلك أن عبد الرحمن بن أبى بكر- أخا عائشة- دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في حال النزع ومعه سواك رطب، يدلك به أسنانه.
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم السواك مع عبد الرحمن، لم يشغله عنه ما هو فيه من المرض والنزع، من محبته له، فمذَ إليه بصره، كالراغب فيه، ففطنت عائشة رضي الله عنها فأخذت السواك من أخيها، وقصت رأس السواك المنقوض، ونقضت له رأساً جديداً ونظفته وطيبته، ثم ناولته النبي صلى الله عليه وسلم، فاستاك به.
فما رأت عائشة تسوكاً أحسن من تسوكه.
فلما طهر وفرغ من التسوك، رفع إصبعه، يوحد الله تعالى، ويختار النقلة إلى ربه تعالى، ثم توفى صلى الله عليه وسلم.
فكانت عائشة رضي الله عنها مغتبطة،وحق لها ذلك، بأنه صلى الله عليه وسلم توفى ورأسه في صدرها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الاستياك بالسواك الرطب.
2- إصلاح السواك وتهيئته.
3- الاستياك بسواك الغير بعد تطهيره وتنظيفه.
4- العمل بما يفهم من الإشارة والدلالة.
5- الرفيق الأعلى: هم المشار إليهم في سورة النساء وهم {الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين}.
الحديث الرابع:
عَنْ أبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قاَل: أتيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهُوَ يَستَاكُ بِسِوَاكٍ رَطْبٍ قَالَ وطَرَف السوَاكِ عَلى لِسَانِهِ، وَهو يَقُولُ: أُع أُع، وَالسوَاك في فِيهِ كَأنَهُ يَتَهَوَّع.
غريب الحديث:
1- «أُع أُع» بضم الهمزة وسكون المهملة. حكاية صوت المتقيئ، أصلها هع هع، فأبدلت همزة.
2- «كأنه يتهوع» التهوع، التقيؤ بصوت.
المعنى الإجمالي:
يذكر أبو موسى الأشعري: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يستاك بمسواك رطب، لأن إنقاءه أكمل، فلا يتفتت في الفم، فيؤذى، وقد جعل السواك على لسانه، وبالغ في التسوك، حتى كأنه يتقيأ.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية السواك بالعود الرطب. وأن السواك من العبادات والقربات.
2- مشروعية المبالغة في التسوك. لأن في المبالغة كمال الإنقاء.
3- أن يستعمل السواك في لسانه، في بعض الأحيان.